في مشهد مذهل يحبس الأنفاس، سقط نظام بشار الأسد في سوريا، فجر الأحد، بعد أكثر من 13 عاماً لم يتوقف خلالها نزف السوريين، وظهر منشور على التلفزيون الرسمي كتب فيه «انتصار الثورة السورية العظيمة وإسقاط نظام الأسد المجرم».
فمنذ بدء الاحتجاجات الشعبية في مارس 2011، واجه النظام معارضيه بالقوة المفرطة واستعان بروسيا وإيران لقمع فصائل المعارضة بعدما كادت تسقط النظام أكثر من مرة لولا التدخل العسكري الخارجي.
واليوم بعد فرار بشار الأسد أعلنت الحكومة السورية تعاونها مع الفصائل المعارضة، واتفق الطرفان على أن تتولى الحكومة تسيير الأمور ومنع الفصائل من اقتحام المؤسسات المدنية للدولة، وسلم عناصر الجيش في دمشق أسلحتهم وحصلوا على العفو وسُمح لهم بالمغادرة إلى بيوتهم، وأبلغ قادة الجيش جنودهم أنه تم تسريحهم، بحسب المرصد السوري.
تم إخلاء مطار دمشق وتوقفت الرحلات الجوية به، وتوجهت جموع المواطنين إلى القصور الرئاسية، ورغم منع قيادة المعارضة إطلاق النار في العاصمة، لم يلتزم الناس وتجمعوا في الساحات وأطلقوا النار بكثافة احتفالاً بنهاية حقبة الأسد.
كان المشهد الأبرز بعد دخول المعارضين لأي مدينة تحطيم تماثيل بشار ووالده حافظ الأسد والتوجه إلى السجون لتحرير المعتقلين، وانتشرت مقاطع مؤثرة ظهر فيها أطفال صغار داخل المعتقلات مع أمهاتهم، ورجال قضوا عشرات السنين في الاعتقال، منهم لبنانيون وفلسطينيون أبرزهم أبو جعفر الجالودي المعروف (أبو جودت)، القيادي بكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.
وأعلن رئيس الائتلاف الوطني السوري، هادي البحرة، أنه سيتم إعادة هيكلة الجيش، وأن دوائر الحكومة ستعود إلى عملها خلال يومين، وأن انتقال السلطة سيتم بالتعاون مع الأمم المتحدة.
تغيرت الخريطة السورية بشكل جذري خلال 11 يوماً فقط، إذ كانت سيطرة فصائل المعارضة محصورة في الشمال بإدلب والمناطق الحدودية التي سيطر عليها الجيش التركي في عمليات عسكرية سابقة، لكن فجأة انطلقت عملية ردع العدوان في 27 نوفمبر حتى أطاحت بالنظام وسيطرت على دمشق.
تنقسم قوات ردع العدوان إلى هيئة تحرير الشام والجيش الوطني وبعض الفصائل المستقلة، وتعد «تحرير الشام»، التي يتزعمها أحمد حسين الشرع المعروف بـ«أبو محمد الجولاني»، أكبر هذه الفصائل، وهي مدرجة على لوائح الإرهاب نتيجة انتمائها السابق لتنظيم القاعدة قبل فك الارتباط عام 2016 وتكوين «جبهة فتح الشام» التي تحولت في العام التالي بعد اندماج فصائل أخرى معها إلى «تحرير الشام».
أما الجيش الوطني، فهو مجموعة من الفصائل المسلحة تتبع الائتلاف الوطني السوري وتتلقى الدعم من تركيا وتنتشر في الأساس بالمناطق التي طرد الجيش التركي قوات قسد الكردية منها.
وهناك أيضاً مجموعات المعارضة في الجنوب التي لملمت صفوفها سريعاً في درعا وما حولها، وهي في الغالب كانت فصائل معارضة لكنها عقدت مصالحات مع القوات الروسية لكن بعد تراجع وضع النظام انتفضت وحررت درعا والقنيطرة، وكذلك السويداء معقل الدروز التي تحرك أبناؤها ضد النظام وخاضوا اشتباكات ضارية حتى تحررت المحافظة، وتحركت مجموعات المعارضة من الجنوب باتجاه دمشق وهناك التقت بالفصائل القادمة من الشمال.
وهناك أيضاً قوات سوريا الحرة (مغاوير الثورة سابقاً) التي تعسكر بجوار القاعدة الأمريكية في التنف قرب نقطة الحدود المشتركة بين الأردن وسوريا والعراق، ويقدر عدد عناصر هذا الفصيل بنحو 500 مقاتل بينهم ضباط منشقون عن الجيش النظامي، يحرسون أكثر من ثمانية آلاف شخص في مخيم الركبان غالبيتهم من اللاجئين السوريين الذين تم ترحيلهم من الأردن، يعيشون أوضاعاً مزرية منذ سنوات، وخلال الأيام الأخيرة شن الفصيل هجوماً على قوات النظام في البادية وكسر الحصار المفروض عليه.
وأثار سقوط النظام مخاوف من اختلاف وتناحر الفصائل المعارضة وتباين رؤاها حول شكل سوريا ما بعد الأسد، لكن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، قال في مؤتمر صحفي اليوم في الدوحة، إن المعارضة السورية تنسق في ما بينها، ويمكن أن يزداد هذا التنسيق في قادم الأيام.
ومن الأطراف المهمة المؤثرة في المشهد السوري قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، وهي حليفة لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل ضد تركيا، وقد سلم النظام مواقعه لقوات «قسد» في البادية شرق البلاد ومواقع كثيرة، حتى باتت تسيطر على ما يقارب ثلث مساحة البلاد.
وفي بيان لـ«قسد»، أعلنت أن قواتها تواصل حماية المنطقة وأهلها الواقعة على الحدود السورية العراقية، وقد أعلن مقاتلو الجيش الوطني، اليوم الأحد، إطلاق هجوم على «قسد» في منبج شمال البلاد.
تتصدر تركيا المشهد في سوريا نظراً لأنها ترعى قوات الجيش الوطني، ورغم تصنيفها هيئة تحرير الشام جماعة إرهابية فإن هناك تنسيقاً بشكل أو بآخر بين الطرفين.
وتقلق تركيا بشدة من وجود قوات سوريا الديمقراطية «قسد» المرتبطة بحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل ضد الحكومة التركية، وأعلن وزير الخارجية التركي أنه لن يكون هناك مفاوضات معهم إن لم يغيروا أنفسهم، مبيناً أن بلاده على تواصل مع واشنطن التي تدرك حساسية تركيا تجاه حزب العمال.
وتنظر أنقرة لـ«قسد» بوصفها مجرد فرع لحزب انفصالي تركي، وكثير منهم ليسوا سوريين أصلاً، لذلك لم تقتصر عمليات الجيش الوطني المدعوم من أنقرة على محاربة النظام، بل «قسد» أيضاً.
وتحضر إسرائيل في خلفية تلك الأحداث؛ فغاراتها ضد حزب الله والميليشيات الشيعية في سوريا أضعفتها ودمرت الروح المعنوية لمقاتليها، وتسعى تل أبيب لاستثمار الأحداث، فقد سيطرت على موقع جبل الشيخ بعد انسحاب الجيش السوري منه، وأعلنت هيئة البث الإسرائيلية أن مسؤولين من الاحتلال يجرون حواراً أولياً مع «قسد».
وبالنسبة لإيران فهي الخاسر الأكبر لأنها فقدت في أيام ما بنته في سنوات طويلة، فقد تلقت قواتها الهجوم في بداياته وتعرضت لخسائر كبيرة، وانسحب حزب الله اللبناني من مدينة القصير السورية على الحدود مع لبنان قبل فترة وجيزة من سيطرة الفصائل عليها، وقبل ذلك انسحبت الميليشيات الإيرانية أيضاً من مواقعها في المدينة باتجاه الحدود السورية العراقية.
وبالنسبة لواشنطن، فإنها أبدت الشماتة بسقوط الأسد، وأعلنت استمرار وجود القواعد الأمريكية شمال وشرق سوريا، فللولايات المتحدة ما يقرب من 900 جندي هناك، في قواعد صغيرة مثل حقل العمر النفطي والشدادي، إلى جانب قاعدة التنف الحدودية.
ورغم تصنيف واشنطن حزب العمال جماعة إرهابية، فإن القوات الأمريكية تتعاون مع «قسد»، وتتمركز في مناطق سيطرتها فقط، وتوفر الدعم لها.
وتشكل الأحداث الحالية خسارة لموسكو التي تتخذ قاعدة بحرية في طرطوس وقاعدة جوية في حميميم، ونقلت القوات الروسية، أمس السبت، أنظمة الدفاع الجوي، مثل منظومة «إس-400» من ريف بانياس، إلى مناطق أكثر قرباً من قاعدتها في طرطوس، وأعلن وزير الخارجية الروسي أنه لا يوجد تهديد خطير لسلامة تلك القواعد في الوقت الحالي.
وكانت تقارير إعلامية ذكرت أن الروس تلقوا ضمانات غير رسمية من أنقرة بشأن سلامة قواتهم، شريطة تركز هجوم قوات المعارضة على إسقاط نظام الأسد دون استهداف القوات الروسية.
يتمثل التحدي الأكبر أمام السوريين في بناء الدولة وطي جراح حقبة الأسد واستيعاب اللاجئين السوريين الذين بدأوا في التدفق عبر المنافذ الحدودية البرية من تركيا ولبنان، وكثيرون يخططون للعودة إلى بلادهم، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتقديم نموذج عادل ومتحضر وتعويض ما لحق بسوريا العريقة من تراجع خلال حقبة الأسد الطويلة.